فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.السجع على قوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده}:

يا من لا يؤثر عنده وعده ووعيده ولا يزعجه تخويفه وتهديده يا مطلقا ستعقله بيده ثم يفنيه البلى ويبيده ثم ينفخ في الصور فيبتدأ تجديده {كما بدأنا أول خلق نعيده} فرقنا بالموت ما جمعنا ومزقنا بالتلف ما ضيعنا فإذا نفخنا في الصور أسمعنا محكم الميعاد في الميعاد ونجيده {كما بدأنا أول خلق نعيده} كم حسرة في يوم الحسرة وكم سكرة من أجل سكرة يومًا قد جعل خمسين ألف سنة قدره كل ساعة فيه أشد من ساعة العسرة نبني فيه ما نقضناه ونشيده {كما بدأنا أول خلق نعيده} قربنا الصالحين منا وأبعدنا العاصين عنا أحببنا في القدم وأبغضنا فمن قضينا عليه بالشقاء أهلكنا فهو أسير البعد وطريده ومن سبقت لهم منا الحسنى فنحن ننعم عليه ونفيده {كما بدأنا أول خلق نعيده}.
يوم كله أهوال شغله لا كالأشغال يتقلقل فيه القلب والبال فتذهل عقول النساء والرجال ومن شدة ذلك الحال لا ينادي وليده تجري العيون وابلا وطلا وترى العاصي يقلق ويتقلى ويتمنى العود فيقال كلا والويل كل الويل لمن لا نريده تخشع فيه الأملاك وتطير فيه الضحاك ويعز على المحبوس الفكاك فأما المؤمن التقي فذاك عبده إخواني ارجعوا بحسن النزوع والأوبة واغسلوا بمياه الدموع ماضي الحوبة وقد نصبنا للمذنب شرك التوبة أفترى اليوم تصيده يا من لا يزال مطالبا مطلوبا يا من أصبح كل فعله محسوبا إن حركك الوعظ إلى التوبة صرت محبوبا وإن كان الشقا عليك مكتوبا فما ينفع ترديده. اهـ.

.تفسير الآية رقم (239):

قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{فإن خفتم} أي بحال من أحوال الجهاد الذي تقدم أنه {كتب عليكم} أو نحو ذلك من عدو أو سبع أو غريم يجوز الهرب منه أو غير ذلك {فرجالًا} أي قائمين على الأرجل، وهو جمع راجل من حيث إنه أقرب إلى صورة الصلاة.
قال البغوي: أي إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها لخوف فصلوا مشاة على أرجلكم {أو ركبانًا} أي كائنين على ظهور الدواب على هيئة التمكن.
وقال الحرالي: ما من حكم شرعه الله في السعة إلا وأثبته في الضيق والضرورة بحيث لا يفوت في ضيقه بركة من حال سعته ليعلم أن فضل الله لا ينقصه وقت ولا يفقده حال، وفيه إشعار بأن المحافظة على الصلاة في التحقيق ليس إلا في إقبال القلب بالكلية على الرب، فما اتسع له الحال ما وراء ذلك فعل وإلا اكتفى بحقيقتها، ولذلك انتهت الصلاة عند العلماء في شدة الخوف إلى تكبيرة واحدة يجتمع إليها وحدها بركة أربع الركعات التي تقع في السعة، وفيها على حالها من البركة في اتساع الرزق وصلاح الأهل ما في الواقعة في السعة مع معالجة النصرة لعزيمة إقامتها على الإمكان في المخافة، وقد وضح باختلاف أحوال صلاة الخوف أن حقيقتها أنها لا صورة لها، فقد صح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة صورة وزيادة صور في الأحاديث الحسان- انتهى.
وروى البخاري في التفسير عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كيفية في صلاة الخوف ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.
قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني لأن مثل ذلك لا يقال من قبل الرأي {فإذا أمنتم} أي حصل لكم الأمن مما كان أخافكم.
ولما كان المراد الأعظم من الصلاة الذكر وهو دوام حضور القلب قال مشيرًا إلى أن صلاة الخوف يصعب فيها ذلك منبهًا بالاسم الأعظم على ما يؤكد الحضور في الصلاة وغيرها من كل ما يسمى ذكرًا {فاذكروا الله} أي الذي له الأمر كله.
قال البغوي: أي فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها.
وقال الحرالي: أظهر المقصد في عمل الصلاة وأنه إنما هو الذكر الذي هو قيام الأمن والخوف- انتهى: فكأنه سبحانه وتعالى لما منع مما ليس من الصلاة من الأقوال والأفعال استثنى الأفعال حال الخوف فأبقيت على الأصل لكن قد روى الشافعي رضي الله تعالى عنه وصرحه في كتاب اختلاف الحديث من الأم وأبو داود والنسائي من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة- الحديث في أنه لما رجع من الحبشة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة» وحكم بأنه قيل حديث ذي اليدين لما في بعض طرقه مما يقتضي أن رجوعه كان قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو كذلك، لكن عاصم له أوهام في الحديث وإن كان حجة في القراءة فلا يقوى حديثه لمعارضة ما في الصحيحين من حديث زيد الماضي المغيا بنزول الآية.
ولما أمر سبحانه وتعالى بالذكر عند الأمن علله بقوله: {كما علمكم} أي لأجل إنعامه عليكم بأن خلق فيكم العلم المنقذ من الجهل، فتكون الكاف للتعليل وقد جوزه أبو حيان في النهر ونقله في موضع آخر منه عن النحاة- والله سبحانه وتعالى أعلم {ما لم تكونوا تعلمون} بما آتاكم على لسان هذا النبي الكريم من الأحكام التي تقدمت في هذه السورة المفصلة ببدائع الأسرار من الأصول ودقائق العلوم كلها.
وقال الحرالي: من أحكام هيئة الصلاة في الأعضاء والبدن وحالها في النفس من الخشوع والإخبات والتخلي من الوسواس وحالها في القلب من التعظيم والحرمة، وفي إشارته ما وراء ظاهر العلم من أسرار القلوب التي اختصت بها أئمة هذه الأمة- انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما أوجب المحافظة على الصلوات والقيام على أدائها بأركانها وشروطها، بين من بعد أن هذه المحافظة على هذا الحد لا تجب إلا مع الأمن دون الخوف، فقال: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}. اهـ.

.قال القرطبي:

لمّا أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قُنوت وهو الوَقار والسّكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطُّمَأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحيانًا، وبيّن أن هذه العبادةَ لا تسقط عن العبد في حال، ورخّص لعبيده في الصلاة رجالًا على الأقدام ورُكبانًا على الخيل والإبل ونحوها، إيماءً وإشارة بالرأس حيثما توجّه؛ هذا قول العلماء، وهذه هي صلاة الفَذّ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المُسَايفة أو من سَبُع يطلبه أو من عدوّ يتبعه أو سَيْل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمّنته هذه الآية. اهـ.
ثم قال رحمه الله: هذه الرخصة في ضمنها إجماع العلماء أن يكون الإنسان حيثما توجّه من السُّموت ويتقلّب ويتصرّف بحسب نظره في نجاة نفسه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} تفريع على قوله: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] للتنبيه على أن حالة الخوف لا تكون عذرًا في ترك المحافظة على الصلوات، ولكنها عذر في ترك القيام لله قانتين، فأفاد هذا التفريع غرضين: أحدهما بصريح لفظه، والآخر بلازم معناه.
والخوف هنا خوف العدو، وبذلك سميت صلاة الخوف، والعرب تسمي الحرب بأسماء الخوف فيقولون الرَّوْع ويقولون الفَزَع، قال عمرو بن كلثوم:
وتحملنا غداة الروع جرد

البيت.
وقال سبرة بن عمر الفقعسي:
ونسوتكم في الروع باد وجوهها ** يُخَلْنَ إماءً والإماء حرائر

وفي الحديث: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع» ولا يعرف إطلاق الخوف على الحرب قبل القرآن قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} [البقرة: 155].
والمعنى: فإن حاربتم أو كنتم في حرب، ومنه سمى الفقهاء صلاة الخوف الصلاة التي يؤديها المسلمون وهم يصافون العدو في ساحة الحرب وإيثار كلمة الخوف في هذه الآية لتشمل خوف العدو وخوف السباع وقطاع الطريق، وغيرها. اهـ.

.قال الفخر:

صلاة الخوف قسمان:
أحدهما: أن تكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية والثاني: في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} [النساء: 102] وفي سياق الآيتين بيان اختلاف القولين.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا التحم القتال ولم يمكن ترك القتال لأحد، فمذهب الشافعي رحمه الله أنهم يصلون ركبانًا على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة يومئون بالركوع والسجود، ويجعلون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصيحات لأنه لا ضرورة إليها وقال أبو حنيفة: لا يصلي الماشي بل يؤخر، واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجهين الأول: قال ابن عمر: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} يعني مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: وهو أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال، فصار قوله: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} يدل على الترخص في ترك التوجه، وأيضًا يدل على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لأن مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه إن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود، فصح بما ذكرنا دلالة رجالًا أو ركبانًا على جواز ترك الاستقبال، وعلى جواز الاكتفاء بالإيماء في الركوع والسجود.
إذا ثبت هذا فلنتكلم فيما يسقط عنه وفيما لا يسقط، فنقول: لا شك أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة أحدها: فعل القلب وهو النية، وذلك لا يسقط لأنه لا يتبدل حال الخوف بسبب ذلك والثاني: فعل اللسان وهي القراءة، وهي لا تسقط عند الخوف، ولا يجوز له أيضًا أن يتكلم حال الصلاة بكلام أجنبي، أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها والثالث: أعمال الجوارح فنقول: أما القيام والقعود فساقطان عنه لا محالة وأما الاستقبال فساقط على ما بيناه، وأما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما، فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع، لأن هذا القدر ممكن، وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف، فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب، إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء وامتنع عليه التوضي به هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه، والأصح أنه يجوز، لأنه إذا كان خوف العطش يرخص التيمم، فالخوف على النفس أولى أن يرخص في ذلك، فهذا تفصيل قول الشافعي رحمه الله وبالجملة فاعتماده في هذا الباب على قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» واحتج أبو حنيفة بأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق فوجب علينا ذلك أيضًا.
والجواب: أن يوم الخندق لم يبلغ الخوف هذا الحد ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أخَّرَ الصلاة فعلمنا كون هذه الآية ناسخة لذلك الفعل. اهـ.
قال الفخر:
اختلفوا في الخوف الذي يفيد هذه الرخصة وطريق الضبط أن نقول: الخوف إما أن يكون في القتال، أو في غير القتال، أما الخوف في القتال فإما أن يكون في قتال واجب، أو مباح، أو محظور، أما القتال الواجب فهو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف، وفيه نزلت الآية، ويلتحق به قتال أهل البغي، قال تعالى: {فقاتلوا التي تَبْغِى حتى تَفِئ إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] وأما القتال المباح فقد قال القاضي أبو المحاسن الطبري في كتاب شرح المختصر: أن دفع الإنسان عن نفسه مباح غير واجب بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه، فإنه يجب الدفع لئلا يكون إخلالًا بحق الإسلام.
إذا عرفت هذا فنقول: أما القتال في الدفع عن النفس وفي الدفع عن كل حيوان محترم، فإنه يجوز فيه صلاة الخوف، أما قصد أخذ ماله، أو إتلاف حاله، فهل له أن يصلي صلاة شدة الخوف، فيه قولان: الأصح أن يجوز، واحتج الشافعي بقوله عليه السلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد» فدل هذا على أن الدفع عن المال كالدفع عن النفس والثاني: لا يجوز لأن حرمة الزوج أعظم، أما القتال المحظور فإنه لا تجوز فيه صلاة الخوف، لأن هذا رخصة والرخصة إعانة والعاصي لا يستحق الإعانة، أما الخوف الحاصل لا في القتال، كالهارب من الحرق والغرق والسبع وكذا المطالب بالدين إذا كان معسرًا خائفًا من الحبس، عاجزًا عن بينة الإعسار، فلهم أن يصلوا هذه الصلاة، لأن قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} مطلق يتناول الكل. اهـ.